قصص تاريخية

قصة حدثت في المدينة

قصة اليوم قصة ممتعة اتركم فى متابعة احداثها هى قصة حدثت فى المدينة

لم تكن قد رحلتْ بعدُ، لكنَّ الإرهاصات والتباشير تقول بأنها راحلةٌ؛ فقد شحب لونُها شحوبًا، وبهت ضياؤها بهوتًا، وتجرَّأ الكلُّ على النظر في وجهها؛ إذ كانوا لا يتجرَّؤون على ذلك وقتَ الظهيرة أو بعد الإشراق.

لم يعبأ الكثير برحيلها كلَّ يوم وحتى ساعة التأهب لهذا الرحيلِ الدامي اللون، وخلعة السماء التي تتحوَّل من مرآة للنِّيل الأزرق إلى قبة سوداءَ؛ حدادًا على الرَّحيل وترقبًا للخلعة الجديدة، مثلما يحدث مع هذا الفتى “علي”، فهو من سكَّان تلك المدينة الرائعة، والمتابع كلَّ يوم وعن كثَبٍ رحيلَها، ويستجلي عظمة الخالق في البعث والنُّشور.

“علي” فتًى في بدايات العَقد الثالث من عمره، يسكن حيًّا يكاد يكون شعبيًّا وسط المدينة الرائعة، الفخمةِ مبانيها، العاليةِ أبراجُها؛ إذ تعكس تلك الصورةُ عُلُوَّ شأن السكان، ومنزلتهم الاجتماعية الرفيعة، يقطن هو الدَّورَ الأخير – “السطوح” كما اعتدنا أن نسمِّيه – مع أمه، رحل أبوه من سنين مضت، لا يدرى متى رحل، لكنَّه يعلم أنه مُذْ وقعت عيناه على مفردات الطبيعة من حوله لم يبصِرْ أبًا له.

وكعادته كلَّ ليلة يقف على قمة سَطح المنزل يترقب وقت انبثاق الأنوار في المحالِّ التِّجارية “المُولات”، ودور السينما، والملاهي، والمطاعم، ونور المآذن؛ إذ يرى كلَّ تلك الجمادات وكأنها تُخرج ألسنتَها له مرة واحدة؛ ابتهاجًا بالليل الطويل، الذي صار نهارًا جديدًا لغالبية سكان المدينة الرائعة.

يرجع أدراجَه يتَّكأ ويدير جهاز المِذياع “الراديو”، منتهى غايتِه سماعُ القرآن الكريم ترتيلاً أو تجويدًا للقرَّاء المِصريين القدامى، أمثال: “الشيخ البنَّا، والحصري، والشيخ المنشاوي” عندما يسمع القرآن الكريم بأصواتهم الشَّجية يُحس بأنه يحلِّق في السماء.

له غرفتُه التي تحرص أمُّه عند ترتيبها ألاَّ تنقُل ورقةً من مكانها إلا إذا سألتْه؛ فهو كاتبٌ، وقاصٌّ، وشاعر، يحب الأدب والشعر، مُرهف الحسِّ.

ليلةً من ذات الليالي حيث كان الصَّيف قد امتد حرُّه لينال آخر ساعات الليل، ظل الفتى الذكيُّ يسمع القرآن تارة، وتارةً يتصفح كتب الشِّعر والأدب، ووافق حينها تلاوة قوله – تعالى -: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].

انتفض الفتى وجعل يُحملق في أضواء المدينة الرائعة، وتجوب عيناه جنَباتِها وناطحاتِها ومبانيَها وتقنياتها المهولة، والآيةُ الكريمة تتردَّد على مسامعه ترديدًا كأنه يرى المدينة لأول مرَّةٍ، وكأنه أيضًا يسمع الآية الكريمة لأوَّل مرة؛ أحسَّ برودةً تلمِس جسده؛ فالتحف غطاءً على كرسيِّه، وغلبه النوم فنام.

من بعيد يبصر كائنين عظيمينِ لهما تقاسيم الوجه البشرى وسَمْتُه، لكن الواحد منهما يكاد يعانق النجوم لفَرْط الطول والضخامة، وإنَّ كفَّ يد الواحد منهما لَيُقلُّ من البشر أمثالِه الكثيرَ والكثير.

يتعجَّب الفتى وتأخذه الرهبةُ والخوف، ينْزوي إلى بعضه البعض، يريد أن يستيقظ لا يستطيع.

يا للهول؟! إنهما يُقبلان عليه إقبالاً كأنهما إليه قادمان بالخصوص، أسند أحدُهما ذراعيه على سور المنزلِ، وكانت أقدامُه تطأ الأرض، يمد إصبعًا من أصابعه الكبيرة صوبَ الفتى ويقول في رقَّة:

السلام عليكم أيُّها الفتى الطيب.

يُحس الفتى ارتياحًا بعض الشيء ويردُّ: وعليك السلام ورحمةُ الله.

المارد الأولُ: لا تخشَ شيئًا، نحن خَلْق مثلُك، خلقنا الله وسوَّانا، لكنَّا زدنا بسطةً في الجسم والرَّسم، نسكن كوكبًا يفوق كوكبَكم مساحة وسَعَة؛ فسبحان الله ربِّ العالمين.

الفتى باستغراب: بسطة واحدة؟!

المارد الثاني: وكان فيه رعونةٌ وطيش – ليس كالمارد الأوَّل – سريع البطش، وكثيرًا ما يمنعه المارد الأول من ارتكاب الحماقات وقد غضب قائلاً: نحن في مَهمة يا أخي لا بد من إنجازِها قبل بزوغ الفجر، فلا تنشغلْ بمثل هذا الفتى الصغير.

المارد الأول: عجيبٌ أمرُ هذا الفتى؛ لقد ترَفع عما يشغَل أقرانَه وأترابه، وانشغل بما هو أفضلُ وأزكى، ألا ترى المذياع الذي يرتِّل القرآن؟ وتلك الصور التي تعلَّق، والأبيات والقصائد الجميلة على جدران حجرتِه؛ ناهيك عن الكتب القيِّمة، إن لهذا الفتى لَلُغزًا أتوق لمعرفته.

المارد الثاني: يا أخي، إن البيت الذي يقطُنه هذا الفتى قديمٌ بالٍ، علاوة على السكنى أعلى سطح العَقار، وهذا يعنى أنه أفقرُ سكانه، فليس جديرًا به أن يكون كباقي سكان المدينة الرائعة، فرأى في “الزهد حشمة” كما يقولون.

المارد الأول: كان من الممكن أن ينجرف إلى ما انجرف إليه أترابُه ورفاقُه، لا لا، هذا الغلام غريبٌ ليس عاديًّا.

المارد الثاني: غريب؟!

المارد الأول: نعم، غريبٌ في زمن: ((طوبى فيه للغرباءِ))؛ كما قال المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم.

المارد الثاني: وماذا عسانا أن نفعل؟

المارد الأول: اتبعني ولا تسأل.

المارد الثاني مستسلمًا: إن سألتُك عن شيء بعدها، فلا تصاحبني.

تبادلا هذا الحوار، والفتى “علي” صامتٌ وقد اشرأبت عنقُه لهما.

يوجِّه المارد الأول إلى الفتى سؤالاً: أيها الفتى الطيِّب، هل هذه حجرتُك التي تعيش فيها؟

الفتى “علي”: نعم، إنها صومعتي ومكتبتي، أنا أقيم مع أمِّي في الطابق الذي يسبقه، لِمَ تسأل؟

المارد الثاني: لقد جئنا لهدم تلك المدينةِ الرائعة العابثِ سكانُها، المنحلَّةِ أخلاقُهم؛ لتصبح أثرًا بعد عينٍ، خرابًا يبابًا، وسوف نبدأ بك وبصومعتِك.

الفتى “علي” في دهشة: ماذا تقول؟ مَن أنت حتى تهدم المدينة بغير ذنبٍ ولا جريرة؟!

المارد الأول: يلتفت لأخيه، يرمُقه بعينه، فيسكت ثم يقول للفتى في ثقة:

أيها الفتى الطيب، أترى أنه لا ذنبَ لهم ولا جريرة؟ أتحبُّ أن أحملك في راحة يدي تلك وترى ما يحدث في الملاهي ودور العَرْض من اجتراءٍ على حرمات الله، وشباب عاكف على “شاشات التلفاز” والحاسوب كأنهم عاكفون على أصنامٍ لهم – عياذًا بالله – غيرَ مبالين بالوقت الذي يمرُّ، والدهرِ الذي يكرُّ، ولا الشمس التي تشرق وتسطع، ثم تخبو وترحل، لا يعني الواحدَ منهم القدومُ كما لا يُزعجه الغروب، تقطَّعتْ بينهم الأواصر والعلاقات الإنسانية، وانحسرت في رسالة “إليكترونية أو محادثة عبر الشبكة العنكبوتيَّة”، وأصاب من أسماها بالعنكبوتية، لقد فرضَت عليهم خيوطًا أرقَّ من خيط العنكبوت، وأقوى من حبائل الشيطان؛ أنكروا المعروفَ، وألِفُوا المنكر، لتراهم في اللَّهو الكبير وزمن المجون يلعبون.

صمت الفتى “علي”، ولم ينبِسْ أو ينطق ببنت شَفَة، لقد رأى في الكلام الصِّدقَ الكثير، ولو ألقى الحجج والمعاذير.

المارد الأول يسترسل: إن الفجر سوف يؤذن بعد سُويعات، أتحبُّ أن ترى جملةَ الوافدين على المساجد من الخوالف والقاعدين؟ وقل في العبث ما تشاءُ.

السابق
جثة من رماد
التالي
طرق طبخ القرنبيط

اترك تعليقاً