قصص تاريخية

جثة من رماد

قصة اليوم من القصص الشيقة التى تستخرج منها عبرة وهى قصة جثة من رماد

انطَلَقَتْ سيارةُ أجرة كبيرة بسرعةٍ جنونية، تَحرقُ المسافةَ الفاصلة ما بين المستشفى ومكان سُكنى أبناءِ الرجل، الذين ركبوها قبل قليل، الرجل الذي كان آنذاك وما يزال مُمدّدًا فوق فراشِ إحدى غرف مستشفى “سان جوزيف”، مرقمة تحت رَقْم مائة وأَحَدَ عَشَر بالدورِ السابع.

بدا والدُ الأبناء ممددًا فوق سرير، تدثِّره ملاءةٌ يميل لونها إلى أزرق فاتح، على حين الأولاد يستعجلون الوصولَ إلى المستشفى، يطلبون من السَّائقِ أن يزيدَ من سرعة القيادة، يفعل هذا كلما طلبوا منه ذلك.

بعد ساعة من الزمن، توقَّفت سيارةُ الأجرة أمام بناية المستشفى الضخم، ذي الطوابق الاثني عشر.

نزل الأبناء من سيارة الأجرة مُسرعين؛ كانوا ثلاثة، وَلَجُوا بابَ المستشفى، وتوجَّهوا مباشرةً إلى المصعد، محاولين ربح مزيد من الوقت، لكنَّهم حينما أدركوا أنه رُبَّما قد يكون مشغولاً، وسيحتاجون لوقتٍ إضافي للانتظار، عدلوا عن الفكرةِ، وقرَّروا أن يرقوا الدرجَاتِ راجلين.

لم تكن فاطمةُ والدةُ الأبناء برفقتهم في تلك الأثناء، كانوا يعلمون أنَّها لم تَعُدْ بعدُ من زيارةٍ عائلية قامت بها إلى المغرب؛ لذا فرُبَّما تلتحقُ بهم في أيِّ وقت شاءت.

ظلُّوا يرقون الدرجات مُسرعين، برهةً، وجدوا أنفسَهم أمام باب الغرفة، الغرفة التي كان يرقدُ بها والدُهم، قرؤوا ما كتب على اللافتة التي علقتْ على بابِ الغرفة: ممنوع الدخول، سينتظرون بقربها؛ حتى يأتي أحدٌ ما يحمل لهم من الأخبارِ ما يُطمئنهم.

لكن اللحظات كانت تمرُّ رتيبة وعصيبة، وأخيرًا ينفتحُ بابُ الغرفة فجأة، ويخرج منه الطبيبُ المكلف بمراقبةِ حالة والدِهم الصحية، حدجهم الطبيب بنظرةٍ عميقة، كأنه بذلك حاول قراءةَ شعورهم قبل أن يسمعوه يُردِّد بصوتٍ خافت: البقية في حياتِكم، لقد توفي المريضُ قبل قليل.

قطب الأبناء الثلاثة:
• “علينا الآن أن نهيئ لدفنِه، نعم لدفنه بعد أن ننقل الجثة إلى المغرب”؛ قاله بكر الرجل، ورنا إلى الطبيب بعينين حزينتين، لكنَّ الطبيبَ بدا وكأنَّه لم يسمع ما تردد على مسمعه، فكَرَّر بكر الرجل العبارة نفسها.

لكن الطبيب قاطعه هذه المرة:
• “لنا إذنٌ من زوجته “كريستين” أن تُحْرَقَ الجثة، أظن أن هذا في عِلْمكم”؛ قاله الطبيب، ونظر إلى ساعة كانت مربوطة على معصمه.

لكنَّ الأبناءَ ظلُّوا واجمين، يَنظرون بعضُهم في وجوه بعض، في ذهول وشِدَّة وقد صعقهم الخبر، وانداح فوق خدودهم شحوبُ القلق.

• تُحرَق الجثة! كيف؟! نطق الأولاد بصوت واحد:

• “كيف تُحرق جثة رجل مسلم؟!”.

• نعم، إنها جثة رجل مسلم، كرَّر بكر الرجل العبارة بانفعال، لكنه كان يعلم شيئًا ما.

كان يعلم أنَّه لا حَقَّ لأمه في أبيه، إنَّها الآن مُطلَّقته، انفصلت عنه منذ مدة طويلة، و”كريستين” هي مَن على ذمته، هي وحْدَها الآن من لها الحق فيه، زوجته، والقانون في صفها.

• “دكتور، هل نستطيع منع حدوث ذلك؟”؛ قال الابن الثاني للرجل هذا وصمت لوهلة، ينتظر رَدَّ الطبيب:

• “لا أظنُّ ذلك”.

رَدَّ الطبيب: “لا يَجوز هذا”، تابع:
“أعطى القانونُ الفَرَنسي للزوجة التي تعيش مع زوجها الحريةَ كاملة؛ لتتصرف في جُثَّة زوجها كيفما شاءت بعد وفاته”؛ قاله الطبيب.

أظن أن كل شيء قد اتَّضح الآن، ودلف إلى مكتبٍ كان مجاورًا للغرفة التي كان والد الأبناء يرقد داخلَها وصفَّق الباب وراءه.

مَرَّت فترة من الزمن غير قصيرة، كانت فترة عصيبة، ظَلَّ الأبناء ينتظرون فيها حدوثَ شيء ما يُغنيهم عن متاهة البحث عمَّن يَمنحهم حَقَّ التصرف.

عَصَر الألَمُ قلوبَهم المكلومة، وهم ينظرون بعضُهم إلى بعض شاردين في حيرة وذُهُول، كمحاربين هزمتهم مباغتةُ عَدُوٍّ ما.

يعود الطبيب مرة أخرى، يخبرهم من جديد، بتوقيت إحراق الجثة، لقد استعلمهم أنَّ عملية إحراق الجثة ستتم غدًا صباحًا في محرقة المدينة.

نفّذت “كريستين” وَعْدَها وأحرقت الجثة، وجمعت رمادها في قِنِّينَة بلورية، ذات لون بُنِّي لامع، وُضِعَت في ركن البهو، الذي اعتادت أن تقضي فيه فترات المساء، تستمتع بالموسيقا وقراءة الروايات، كلما أشعلت المدفأة وانتعشت بدفئها.

عاد الأبناء إلى أرض الوطن في عُطلة صيف ذاك العام، وحينما كان الابن البكر مارًّا قرب مقبرة مرشان، توقَّف وهلةً ببابها المقوس… شاهد قبورًا بُنِيَت على أرضها الشاسعة، غمغم بكلام: لو كان أحدها هو قبر والده.

• لماذا لا يكون لك قبر هنا يا والدي؟! قاله رافعًا صوتَه وبكى.

ظَلَّ سؤالاً عالقًا بذهن أولادِه دون إجابة، وكان قد طرحه جُلُّ معارف الرجل وأصدقائه المقربين.

• لماذا أُحرِقت الجثة؟!

أيكون الرجل قد تَخلى عن دينه كمسلم، في السنوات الأخيرة من حياته، واعتنق بديله الديانة المسيحية ولذلك أُحْرِقَت الجثة، كما تفعل بعض طوائفها، أم ظل على دين آبائه وأجداده مسلمًا، ولكن كان حق زوجته “كريستين” الفرنسية في جثته أقوى من حق مُطلقته فاطمة المغربية، فحدث ما حدث؟!

السابق
طريقة عمل مرقة البامية
التالي
قصة حدثت في المدينة

اترك تعليقاً